الدولار الأمريكي القوي يثقل كاهل العالم
انخفضت كل العملات الرئيسية تقريبًا أمام الدولار الأمريكي خلال عام 2025، ويعد ذلك تحولًا واسع النطاق على عكس ما كان متوقعًا في العام الماضي، في ظل تزايد التكهنات بإبقاء البنك الاحتياطي الفيدرالي على أسعار الفائدة مرتفعة لمدة أطول خلال هذا العام، بالإضافة إلى تزايد احتمالات حدوث عواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي، وفقًا للعديد من التقارير الاقتصادية.
وقد شهدت ثلثى العملات الـ 150 التي تتبعتها بلومبرج تراجعًا أمام الدولار، الذى تنبع قوته في الفترة الأخيرة من تحول في التوقعات حول توقيت ومقدار قيام البنك الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة القياسية والتي تقع بالقرب من أعلى مستوياتها منذ 20 عامًا.
وتعنى أسعار الفائدة المرتفعة استجابة للتضخم العنيد أن الأصول الأمريكية تقدم عائد أفضل مقارنة بالعديد من دول العالم، لهذا يحتاج المستثمرون إلي الدولار لشراء هذه الأصول، في الأشهر الأخيرة تزايد تدفق الأموال بقوة إلي الولايات المتحدة والتي شعر بها أغلب صانعي السياسة النقدية والمؤسسين الماليين.
ارتفاع الدولار له تأثيرات سريعة وبعيدة المدى
يمثل الدولار الأمريكي حوالي 90% من جميع معاملات سوق تداول العملات وبالتالي فإن تعزيز العملة الأمريكية يؤدي إلى تفاقم التضخم في الخارج، حيث تحتاج الدول إلى مبادلة المزيد من عملاتها بنفس الكمية من السلع المقومة بالدولار وكذلك السلع المتداولة عالميا مثل النفط والتي غالبا ما يتم تسعيرها بالدولار، لهذ تواجه الدول التي اقترضت بالدولار أيضا فواتير فائدة أعلى.
ومع ذلك، قد تكون هناك فوائد لبعض الشركات الأجنبية، حيث يستفيد الدولار القوي من المصدرين الذين يبيعون منتجاتهم إلى الولايات المتحدة، كما يستطيع الأمريكيون شراء المزيد من السلع والخدمات الأجنبية، ولكن هذا يضع الشركات الأمريكية التي تبيع منتجاتها في الخارج في وضع غير مؤات لأن سلعها تبدو أكثر تكلفة، ويمكن أن يؤدي إلى اتساع العجز التجاري الأمريكي في وقت يشجع فيه الرئيس بايدن على المزيد من الصناعة المحلية.
إن كيفية ظهور هذه الإيجابيات والسلبيات تعتمد على السبب الذي يجعل الدولار أقوى، ويعتمد ذلك على السبب الذي قد يجعل أسعار الفائدة الأمريكية مرتفعة.
وفي وقت سابق من هذا العام، شهدت الولايات المتحدة نمو قوي غير متوقع والذي يمكن أن يدعم الاقتصاد العالمي في التغلب على المخاوف بشأن التضخم العنيد، ولكن إذا ظلت أسعار الفائدة الأمريكية مرتفعة لأن التضخم لا يزال ثابتا حتى مع تباطؤ النمو الاقتصادي، فإن التأثيرات قد تكون أكثر “صعوبة“، كما قال “كاماكشيا تريفيدي” المحلل في بنك جولدمان ساكس، وفي هذه الحالة، سيكون صناع السياسات عالقين بين دعم اقتصاداتهم المحلية من خلال خفض أسعار الفائدة أو دعم عملاتهم من خلال إبقائها مرتفعة، وعلى ما يبدو أننا قريبين من هذا الأمر.
لقد كانت تأثيرات قوة الدولار محسوسة بشكل حاد في آسيا، ففي وقت سابق التقى وزراء مالية اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة في واشنطن، وتعهدوا من بين أمور أخرى “بالتشاور عن كثب بشأن تطورات سوق الصرف الأجنبي”، وأشار بيانهم بعد الاجتماع أيضًا إلى المخاوف الجادة لليابان وجمهورية كوريا بشأن الانخفاض الحاد الأخير في قيمة الين الياباني والوون الكوري.
يعد الوون الكوري هو الأضعف منذ عام 2022، وقد وصف محافظ البنك المركزي في البلاد مؤخرًا التحركات في سوق العملات بأنها “مفرطة”.
أما الين الياباني فقد انهار مقابل الدولار يوم الاثنين (29 أبريل) لفترة وجيزة إلى ما دون 160 ين للدولار للمرة الأولى منذ عام 1990، في تناقض حاد مع البنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة، بدأ البنك المركزي الياباني في رفع أسعار الفائدة هذا العام فقط بعد أن واجه صعوبات.
بالنسبة للمسؤولين اليابانيين، يعني رفع سعر الفائدة تحقيق توازن دقيق ولكن ليس بشكل كبير على نحو قد يؤدي إلى خنق النمو، وكانت نتيجة هذا التوازن هي إضعاف العملة، حيث ظلت أسعار الفائدة بالقرب من الصفر، ويكمن الخطر في أنه إذا استمر ضعف الين، فقد يفقد المستثمرون والمستهلكون الثقة في الاقتصاد الياباني مما يؤدي إلى تحويل المزيد من أموالهم إلى الخارج.
وهناك خطر مماثل يلوح في الأفق بالنسبة للصين التي تضرر اقتصادها بفعل أزمة العقارات وتباطؤ الإنفاق في الداخل، وقد خففت الدولة، التي تسعى إلى الاحتفاظ بعملتها ضمن نطاق ضيق، موقفها مؤخرًا وسمحت لليوان بالضعف، وهو دليل على الضغط الذي يمارسه الدولار في الأسواق المالية وعلى القرارات السياسية للدول الأخرى.
يقول “براد سيتسر” وهو خبير اقتصادي سابق في وزارة الخزانة الأمريكية: إن ضعف اليوان ليس علامة على القوة، لكنه سيؤدي إلى تساؤلات حول ما إذا كان اقتصاد الصين قويا كما يعتقد الناس.
وفي أوروبا، أشار صناع السياسات في البنك المركزي الأوروبي إلى أنهم قد يخفضون أسعار الفائدة في اجتماعهم المقبل في يونيو، ولكن حتى مع تحسن التضخم في منطقة اليورو هناك مخاوف بين البعض من أنه من خلال خفض أسعار الفائدة أمام بنك الاحتياطي الفيدرالي، فإن البنك المركزي الأوروبي قد يؤدي إلى تفاقم المشكلة، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى اتساع الفارق في أسعار الفائدة بين منطقة اليورو والولايات المتحدة، الأمر الذي سيؤدي إلى المزيد من إضعاف اليورو.
وقال “غابرييل مخلوف” محافظ البنك المركزي الأيرلندي وأحد الأعضاء الـ 26 في مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي، إنه عند وضع السياسة لا يمكننا تجاهل ما يحدث في الولايات المتحدة.
ويواجه صناع السياسات الآخرون تعقيدات مماثلة، حيث تفكر البنوك المركزية في كوريا الجنوبية وتايلاند في خفض أسعار الفائدة أيضا.
وعلى النقيض من ذلك، قام البنك المركزي الإندونيسي برفع أسعار الفائدة بشكل غير متوقع لدعم عملة البلاد المنخفضة القيمة، وهي إشارة إلى مدى انعكاس قوة الدولار في جميع أنحاء العالم بطرق مختلفة، وتعكس بعض العملات الأسرع هبوطاً هذا العام مثل تلك الموجودة في مصر ولبنان ونيجيريا تحديات محلية أصبحت أكثر صعوبة بسبب الضغوط التي يمارسها ارتفاع الدولار.
العوامل التي تجعل الدولار الأمريكي ملك جميع العملات
يقف الدولار الأمريكي شامخًا باعتباره البطل بلا منازع، حيث يهيمن على المعاملات والاحتياطيات عبر الحدود، وهذا الموقف المتميز ليس مجرد صدفة، بل هو نتيجة لعوامل مختلفة تساهم في الطلب الواسع النطاق على العملة الأمريكية.
سوف نستكشف الأسباب التسعة الرئيسية وراء تفوق الدولار الأمريكي في عالم التجارة الدولية:
1 .الاستقرار الاقتصادي والنمو
تكمن الركيزة الأولى التي تدعم هيمنة الدولار الأمريكي في الاستقرار الاقتصادي والنمو المستمر للولايات المتحدة، ومع اقتصاد قوي ومرن، يتميز بمجموعة متنوعة من الصناعات تلهم الولايات المتحدة الثقة بين التجار الدوليين، ويتدفق المستثمرون على الاستقرار الذي يوفره الدولار، معتبرين أنه ملاذ آمن في أوقات عدم اليقين الاقتصادي.
2 .حالة العملة الاحتياطية
يتمتع الدولار الأمريكي بمكانة مرموقة باعتباره العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم، تحتفظ البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم باحتياطيات كبيرة بالدولار، مما يوفر أساسًا متينًا للمعاملات العالمية، ويعمل هذا الوضع الفريد على رفع مصداقية الدولار وسيولته وتيسير التجارة والاستثمار عبر الحدود بشكل أكثر سلاسة.
3 .نظام البترودولار
المحرك الرئيسي للطلب على الدولار هو نظام البترودولار، تتم معظم معاملات النفط العالمية بالدولار الأمريكي وهي ممارسة بدأت في السبعينيات، وهذا يخلق طلبًا متواصلًا على الدولار، حيث يجب على الدول الاحتفاظ باحتياطيات كبيرة لتأمين احتياجاتها من الطاقة، إن تفوق البترودولار يعزز الدور الذي يلعبه الدولار في التمويل والتجارة الدوليين.
4 .حجم وانفتاح الأسواق المالية الأمريكية
يساهم الحجم الهائل للأسواق المالية الأمريكية وانفتاحها بشكل كبير في تعزيز جاذبية الدولار على مستوى العالم، حيث ينجذب المستثمرون إلى عمق هذه الأسواق وسيولتها، مما يوفر لهم فرصًا كبيرة للتنويع وإدارة المخاطر، إن سهولة الوصول إلى الأدوات المالية الأمريكية وشفافيتها يزيدان من الطلب على الدولارات في المحافظ الدولية.
5 .الدولار كعملة تجارية عالمية
إن الاستخدام الواسع النطاق للدولار الأمريكي كعملة تجارية عالمية هو آلية تعزيز ذاتية، يكشف بحث تم اجراؤه لتكوين العملات لاحتياطيات النقد الأجنبي الرسمية أن 59.8% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية هي بالدولار الأمريكي يليه اليورو بنسبة 19.7% والين الياباني بنحو 5.3% والجنيه الإسترليني بنحو 4.6%.
العديد من المعاملات الدولية مقومة بالدولار مما يخلق تأثيرًا شبكيًا يشجع الشركات والدول على إجراء التجارة باستخدام الدولار، يعمل هذا القبول العالمي على تبسيط المعاملات ويقلل من تكاليف تحويل العملات ويخفف من حالات عدم اليقين في أسعار الصرف.
6 .الاستقرار السياسي والقوة العسكرية
وبعيداً عن العوامل الاقتصادية، يلعب المشهد الجيوسياسي دوراً حاسماً في هيمنة الدولار، إن الولايات المتحدة باعتبارها قوة سياسية ذات قوة عسكرية لا مثيل لها، تغرس الثقة في استقرار وأمن عملتها، وتشعر الدول بالأمان في الاحتفاظ باحتياطاتها بالدولار، لعلمها أن حكومة الولايات المتحدة تمتلك الوسائل اللازمة لحماية مصالحها الاقتصادية.
7 .إطار قانوني قوي
تفتخر الولايات المتحدة بإطار قانوني قوي والتزامها بسيادة القانون، مما يعزز بيئة جديرة بالثقة للأعمال التجارية الدولية، وتمتد هذه الموثوقية إلى إنفاذ العقود وحماية حقوق الملكية، مما يضمن للمستثمرين أن أصولهم المقومة بالدولار آمنة، وتعزز الثقة في النظام القانوني الأمريكي جاذبية الدولار للمعاملات العالمية.
دولرة التمويل العالمي
تشكل ظاهرة الدولرة عاملاً آخر يعزز تفوقها، حيث تتبنى دول خارج الولايات المتحدة الدولار الأمريكي كعملة رسمية أو فعلية، بعض هذه الدول هي: الإكوادور والسلفادور وبالاو وجزر مارشال وولايات ميكرونيزيا الموحدة وبنما وجزر فيرجن البريطانية وجزر تركس وكايكوس وتيمور الشرقية (تيمور الشرقية) وزيمبابوي.
الدول التي تقبل الدولار الأمريكي كعملة إضافية تشمل: أوروبا وجزر البهاما وبربادوس وبليز وبرمودا وكمبوديا وكندا وجزر كايمان وكوستاريكا وكوراساو وغواتيمالا وهندوراس وجامايكا ولبنان وليبيريا والمكسيك وميانمار ونيكاراغوا وسانت كيتس ونيفيس وسانت مارتن وفيتنام على سبيل المثال.
وهذا الاستخدام الواسع النطاق للدولار في المعاملات اليومية يعزز دوره كوسيلة عالمية للتبادل، مما يؤدي إلى تضخيم الطلب عليه ونفوذه.
في النهاية:
إن تفوق الدولار الأمريكي على الكثير من العملات الأخرى هو نتيجة متعددة الأوجه للقوة الاقتصادية والتأثير الجيوسياسي والعوامل التاريخية، وبينما يتنقل العالم في بيئات مالية متطورة، فإن الطلب الدائم على العملة الأمريكية يؤكد على مرونتها وقدرتها على التكيف، وبينما تستمر المناقشات حول مستقبل العملات الدولية يظل الدولار الأمريكي في الوقت الحالي محور النظام الاقتصادي العالمي.